كلمة وزير العدل النقيب شكيب قرطباوي
في إحتفال الذكرى الخمسين
لتأسيس معهد الدروس القضائية
بتاريخ 5 تشرين الثاني 2013
فخامة رئيس الجمهورية،
دولة رئيس مجلس الوزراء،
دولة الرئيس المكلف تشكيل الحكومة،
الحضور الكريم،
في بداية كلمتي أتوجه إليكم بالشكر، فخامة الرئيس، لقبولكم رعاية هذا الإحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس معهد الدروس القضائية الذي أنيطت به رسالة سامية ألا وهـي تنشـئة من سيحكم باسم الشعب اللبناني بكامله من على قوس المحكمة. وإن حضوركم اليوم وحضور دولة الرؤساء
وممثليهم ومعالي الوزراء وسعادة النواب وسائر الضيوف ما هو إلاّ دليلٌ منكم جميعــــاً على الإهتمــــام الذي تولونه للقضاء باعتباره السلطة الثالثة المنصوص عنها دستورياً ولــو كان الواقع لا يأتلف مــع روحية النص.
ودعوني فخامة الرئيس أُهنىء قضاة لبنان بيوبيل معهدهم الذهبي. وإنني أُحييهم جميعاً وعلى رأسهم رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد ورئيس مجلس شورى الدولة القاضي شـــكري صـادر ورئيس ديوان المحاسبة القاضي عوني رمضان مرحباً بهم جميعهم في بيتهم. كما أُحيي نقيبي المحامين وسائر النقباء والمحامين شركاء القضاة في إحقاق الحق.
أيها الحضور الكريم،
في يوبيله الذهبي يُسعدني أن أذكر بالخير القاضي المرحوم خليل جريج مؤسس معهد الدروس القضائية على هذا الإنجاز الكبير، وكل القضاة الذين
ترأسوا المعهد أو تولوا مديرية الدروس فيه، مترحماً على من توفي منهم، شاكراً عطاءهم، وشاكراً الأحياء من بينهم متمنياً لهم عمراً مديداً. والشكر بصورةٍ خاصة الى رئيس المعهد الحالي القاضي سامي منصور الذي يغادرنا قبل نهاية السنة الحالية ولوجاً الى تقاعد يستحقه بعد حياة قضائية مديدة تشهدُ له بالعلم والنزاهة والتواضع. والشكر أيضاً لمدير الدروس في المعهد القاضي سهيل عبود على ما قام ويقوم به من تجديد وتغيير، وأقول له إننا نعول عليه في المرحلة المقبلة من أجل متابعة تنشئة جيل من القضاة يستحقون الحكم بإسمنا.
وبالمناسبة لا بد أيضاً من شكر الدول الصديقة التي ساهمت وتساهم في تطوير معهد الدروس القضائية من خلال المساعدات التي قدمتها وتقدمها.
السيدات والسادة،
في اللحظة التي نحتفل فيها بهذا اليوبيل لا بد من أن أتوجه بالشكر أيضاً، و باسم قضاة لبنان الى المجلس النيابي الكريم ودولة الرئيس بري على القانون الذي أقره مجلس النواب في صيف 2011 والى فخامة رئيس الجمهوريــة ودولة رئيـس مجلـس الوزراء على إصدار القانون المذكور المتعلق بـزيادة
رواتب القضاة، هذا القانون الذي كان معالي الوزير ابراهيم نجار قد بدأ العمل في سبيل إقراره، والذي إنتقده كثيرون بعد صدوره واعتبروا أنه فتح باباً لمطالبات إجتماعية عديدة. إلاّ أن هذه الإنتقادات أغفلت أن الزيادة تعود لإحدى السلطات الدستورية الثلاث وأن المقصود منها السماح للقاضي بالعيش بكرامة مع عائلته، فضلاً عن محاولة إجتذاب عناصر جيدة من الشابات والشبان ليكونوا قضاة لبنان المستقبل. وأُذكِر بأن معالي الوزير بهيج طباره ساهم في عمل مماثل في بداية التسعينات من القرن الماضي فأوقف في حينه موجة الإستقالات من القضاء.
فشكراً لكل من ساهم ووافق على إصدار قانون سنة 2011.
فخامة الرئيس، السيدات والسادة،
إسمحوا لي رغم المناسبة، بأن أخرج عن موضوع الإحتفال وأتكلم في موضوع القضاء عمومـــاً بصراحة وبساطة، إذ يقف أمامكم الآن وزير للعدل آتٍ من المحاماة، عرف القضاء من خلال عمله كمحام مدة طويلة وكنقيب للمحامين، وعرف القضاء من الداخل كوزير للعدل، وهو يعرف بالتالي الوضع الحقيقي للجسم القضائي بإيجابياته و سلبياته، وهو الذي كان شعاره ساعة تسلمه لمهامه الوزارية "العمل في سبيل إعادة ثقة الجسم القضائي بنفسه وثقة المواطنين بالجسم القضائي".
إستعادة الثقة لا تكون بكلمات إنشائية أو بلغة خشبية لا يصدقها حتى من يطلقها، بل بمجابهة الواقع والإعتراف بوجود مشاكل وبيان الحلول الممكنة. أمامكم فخامة الرئيس، ومن على هذا المنبر أعتـرف بــوجـود المشاكل وأُؤكد أن بدايات حلول قد بوشر العمل عليها. وإنني أقول بصراحــــة كليــــة أن المشاكل الأساسية تنبـع من مصادر ثلاث: من داخل القضاء نفسه، ومن الطبقـة السياسية والنافذين، ومن ذهنية مهيمنة على أكثريـة اللبنانيين لا يمكن تجاهل خطرها على مؤسسة القضاء.
أما في الكلام عن القضاة فيجب الإعتراف بأن الأكثرية الكبيرة من بينهم هي من درجة مميزة، وبالتالي فإن التعميم الإعلامي أو السياسي أو الشعبي في الكلام عن أي خلل قضائي هو تعميم ظالم يصيب القضاة كافة. وبالمقارنة فإن آلاف الطائرات تُحلق كل يوم في الفضاء الواسع ولا أحد يتكلم عنها، في حين أن الطائرة التي يُصيبها حادث ما أثناء طيرانها تتصدر الأنباء في العالم أجمع. وهكذا في القضاء، فالقضية التي يشوبها خلل تصبح حديث الجميع وتحجب العمل الممتاز الذي تقوم به الأكثرية الكبيرة من القضاة. إلاّ أن ذلك لا يمنعني من الإعتراف بوجود معضلات ثلاث لا بد من معالجتها. المعضلة الاولى تتعلق بالتأخير في المحاكمات الذي يعود الى أسباب عديدة بعضها يتصل بحق الدفاع المقدس ودرجات المحاكمة من بداية وإستئناف وتمييز، وبعضها يعود الى قسم من زملائي المحامين وتجاوب بعض القضاة مع طلباتهم في التأخير، والبعض الأخير يعود الى بطء عمل بعض القضاة كي لا أقول أكثر من ذلك. وهذا أمر بَدأَت معالجتُهُ من خلال الإحصاءات التي يجريها أحد القضاة بناءً لطلب وزارة العدل بالإتفاق مع مجلس القضاء الأعلى، ومن خلال برنامج السجون الإلكتروني المعروف باسم "باسم" والذي يبين الوضع القضائي لكل نزيل في السجون ويتيح بالتالي إمكانية معالجة أي تأخير في بت قضيته.
وهذه الإحصاءات لن تتوقف ولو أزعجت البعض. وتُحال النتائج الى التفتيش القضائي والى مجلس القضاء الأعلى
ليُبنى على الشيء مقتضاه. وقد بدأت بوادر التحسُن في الظهور خلال سنة2013 مقارنة مع سنة 2012. أما المعضلة الثانية فتتعلق بإزالة الشوائب من الجسم القضائي نفسه، وليس هناك عيب في الإعتراف بوجود شــوائب. فالقضاة بشر كسائر البشر، والإنسان معرض للتجربـة وإن كانت نتائجها على مستوى القضاء أكثر إيلاماً من أي موقع آخر. وهنا دعــوني أنقل إليكــم نظرتي الى نصف الكــوب الملآن بدل التطلع دوماً الى نصف الكوب الفارغ. فالجســم القضائي قام ويقوم خلال السنتين الأخيرتين بجهد غير مسبوق في تاريخ القضاء اللبناني. فالإحالة على المجلس التأديبي للقضاة إرتفعت بنسبة 400% (أربعماية بالمئة) وعدد من صُرف من الخدمة نهائياً خلال سنتين يزيد عن عدد من صُرف من الخدمة خلال عشرين عاماً متواصلة، وآلية إعلان عدم أهلية القاضي المنصوص عنها في المادة 95 من قانون القضاء العدلي بدأ تطبيقها للمرة الأولى. وهذا كله يدل على شجاعة معنوية كبيرة أبداها كل من التفتيش القضائي والمجلس التأديبي للقضاة والهيئة القضائية العليا للتأديب، وبالطبع كل من مجلس القضاء الأعلى ومكتب مجلس شورى الدولة، كما يدل على الدعم المعنوي الكبير الذي تقدمه وزارة العدل للجسم القضائي، وكل ذلك بتشجيع مشكور من فخامتكم
ومن دولة رئيس الحكومة. ودعوني أؤكد وأجزم أن عملية تنقية النفس التي ينفرد بها الجسم القضائي عن جميع المؤسسات الأُخرى في لبنان ستستمر مهما كانت الصعوبات.
أما المعضلة الثالثة، وسأقول ذلك علناً وبكل صراحة طالما أننا نقوله جميعنا هَمْساً، ألا وهو محاولة تسييس بعض الملفات من قبل بعض النافذين ومن قبل قلة من القضاة، وتدخل بعض السياسيين والنافذين في القضاء، ولجوء قلة من القضاة الى أُمراء المذاهب والطوائف والى بعض السياسيين والنافذين على أمل نيل مركز قد يعتبرونه ذي شأن أكبر من غيره. وبالطبع مقابل كل خدمة من طرف خدمة من الطرف الآخر.
من على هذا المنبر أتوجه الى السياسيين وأنا من بينهم حالياً، لأردد ما قلته لهم نقيباً للمحامين عام 1997: السياسة دولاب، يوم لنا ويوم علينا، وحده القاضي النزيه المتجرد والمستقل يحمينا أينما كنا، والى أي دين أو مذهب إنتمينا، ومهما كان رأينا السياسي. ولنتذكر أن من يقف على بابنا اليوم قد وقف على باب غيرنا بالأمس وسيقف على باب سوانا غداً.
وما قلته عام 1997 يصح في كل زمان وفي كل مكان.
ولهذه القلة القليلة من القضاة أقول: حافظوا على إستقلاليتكم وعلى تجردكم، فللسياسيين مصالحهم، وهذه سنة الحياة، ولكم أنتم مصالحكم ألاّ وهي المحافظة على كرامتكم وعلى قدسية قسمكم.
ودعوني أتوجه الى اللبنانيين لأذكرهم بأن معايير النزاهة والتجرد والإستقلال هي المعايير التي تحمي كلاً منهم، ولتذكيرهم أيضاً أنه في كل قضية هناك خاسر ورابح وليس القاضي هو المخطىء في كل دعوى نخسرها، ولتذكيرهم أخيراً أننا نستطيع أن نربح دعوانا بالحق وبالقانون وليس بالواسطة كما يقول الكثيرون من بيننا. فلا نظلمن القاضي لمجرد خسارتنا الدعوى.
وأخيراً لا آخراً، دعوني أعود الى معهد الدروس القضائية، الى القضاة المتدرجين، قضاة لبنان المستقبل لأقول لهم، ولأقول للقضاة العاملين أيضاً: كونوا أحراراً في قراراتكم، فلا فضل لأحد عليكم. كونوا متواضعين، فالتواضع سمة الكبار. كونوا فخورين لا متكبرين. التزموا واجب التحفظ الذي لا يعني التنسك، إلاّ أنه يعني حفظ هيبة القضاء وعدم الإنخراط في تلك المظاهر الفارغة التي تــكثر فـي المجتمع اللبناني. تابعوا التحصيل العلمي الدائم، فالعــــلم يسير
بخطى متسارعة جداً ولا بد من متابعتها باستمرار. وتذكروا أن القاضي يبقى قاضياً له التقدير نفسه أينما كان وفي أي مركز أُلحـق
. ولا تنسوا أن جلوسكـــم في المقاعد الأمامية من المجتمعيعطيكم بالطبع حقوقــــاً مميزة وضمانات، إلاّ أنه يرتب عليكم واجبات أكبر وأصعب من أجل دولة القانون التي نريد، والتي يجب أن تصبح واقعاً، لا أن تبقى شعاراً نتغنى به في المناسبات.
هنيئاً لكم الذكرى الخمسين. شكراً لكم فخامة الرئيس ودولة الرئيسين، شكراً لحضوركم جميعاً، والى مستقبل أفضل إن شاء الله.
عشتم، عاش معهد الدروس القضائية،
عاش لبنان